11- إدراك النّور

في نقاش لطيف مع صديقتي سارة ذكرت لي صفة تحبها في شخصيتي، وأنا استغربت كثيرا أن هذه الصفة موجودة فيني لدرجة أنها تظهر بوضوح للآخرين، لم أكن أعلم أننا نغرق في الأشياء المحاطة بنا ولا ندركها، وفي نفس النقاش ذكرتُ لها شيئا أفتقد لوجوده في حياتي، وهذا الشيء لم يخطر ببالها أبدًا طوال حياتها بأن تلفت النظر إليه أو تفكر في الحصول عليه حتى، لأنه ضمن روتينها اليومي منذ ولادتها! الأمر الذي جعلني أفكّر في نقطة مهمة، وهي أننا لا ندرك الأشياء المحيطة بنا والتي تمنحنا شعورا جيّدا، وبالمقابل نرتبط ارتباطا وثيقا بالأمور التي نفتقدها، نبدأ بتسميتها واللحاق بها ومراقبتها في حياة الآخرين، فمثلا يشعر الوحيدون دائما بوحدتهم، بينما يندر أن يلاحظ المختلط بأحبائه والمتواصل معهم بأنه يمتلك هذا الأمر حقا، ولذلك نحن في هرولة مستمرة خلف ما نفقده، ذلك لأن المفقود له وقع شديد على النفس، وآثار أخرى مثل القلق أو الحاجة، ونحن لا ندرك فقداننا لأننا قررنا ذلك، ولكن لأن آثار الفقد الشديدة هي من دفعتنا لذلك.

لماذا لا نعكس المعادلة؟ بأن نختار نحن إدراكنا للأمور التي هي جزء من حياتنا لدرجة أننا لم نلحظها أصلًا، وهذا ما يحدث في معظم الأحيان، ننسى المصطلح الذي يعبّر عن حالة جيّدة أو سعيدة نعيشها كلّ يوم، وكأنه غير موجود إطلاقا، لأننا اعتدنا وجوده ولأننا نظنّ أنه جزء لا يتجزأ من تكوين حياتنا، لكن وجوده القديم معك لا يلغي فقدانه في حياة الآخرين، أو ربما في حياتك مستقبلًا! أعتقد أن كل واحد منا يعيش في زخم من الاحتمالات الرائعة والمفقودة في حياة الآخرين، فما تراه بديهيا وعاديا يراه الآخرون حلما ليحصلوا عليه، وأعتقد أنه من هذا المنطلق جاءت بعض المقولات مثل "انظر للجانب الممتلئ من الكوب" أو "انظر للجانب المشرق"، أو حتى عمل بعض التمارين مثل تمرين "كتابة عشرة أشياء أمتن لوجودها في يومي"، والمشترك بينهم جميعًا أن المحرّك الأساسي للشعور بهذا العطاء المتجلي في يومنا هو الإنسان نفسه، فهو من يقرر النظر إلى الجانب الممتلئ من الكوب، وهو من يقرر النظر إلى الجانب المشرق، وهو من يقرر أن يدرك الأمور العشرة التي سيمتنّ اليوم لوجودها، ولذلك فإن إهمال هذا الجانب وفسح المجال لآثار الفقد الشديدة لتقرر عنا ما ندركه وما لا ندركه، يدخلنا في دوامة بؤس شديدة تتمثل في النّظر إلى حياة الآخرين كونها تعبّر عمّا نود أن نكونه أو نحصل عليه.

نكون أكثر عدلًا حين نقرر أن نرصد عين ثالثة لمراقبة كل شيء بحياديّة، لندرك أن في حياتنا وفرة من الفرص والأمل، وفي كثير من الأحيان يكون من خلف الفقد الشديد نورٌ لا ندركه، لأن ألم الفقد طغى على فضول الإدراك، ونحن غارقون بالتعرّض لهذه المشاعر ومنغمسون في التعرّف على احتياجاتنا ومراعاتها وتلبيتها، فمن الألطف أن نرصد العين الثالثة لتراقب كل شيء بهدوء وحياديّة، لأنه من خلال فصل أنفسنا عن أنفسنا ومراقبة الأمور بحيادية، يكون إدراك النّور.

هذه العين الثالثة عبارة عن شيء منفصل عنك، وخارج عن كيانك، فيمكن أن تتمثل بالكتابة مثلًا، حين تمارس يوميا الكتابة للحديث عن الأشياء المفقودة في حياتك والتي تحلم بالحصول عليها، تستطيع مراقبة هذه الرغبات ككيان خارجي لتتصرف بحكمة أكبر حيالها، وربّما قد تكون هذه العين بمثابة صديق مقرّب وواعٍ يستطيع أن يجعلك تبصر الخفايا العظيمة في حياتك وأنت غافل عنها، قد تتمثل هذه العين في مراقبتك لمراحلك السّابقة بحيادية، وتلاحظ الفترات العصيبة وما بعدها من انفتاح وفرج، أو قد تكون هذه العين بمثابة قراءة لكتاب رائع يزيد من وعيك تجاه الحياة والأمنيات والوقت والأمل، أو قد تكون هذه العين بمثابة قائمة من عشر خانات تتحدّث فيها عن الأشياء التي تمتن لوجودها في حياتك اليوم!

ارصد عينًا ثالثة تدرك من خلالها ما لا تستطيع إدراكه بإحساسك الفاقد والمحتاج، وكن أكثر وعيًا وابدأ بذلك، لأن اعتمادك على شعورك المحتاج في السعي خلف الأمنيات لا يعوّل عليه.

تعليقان (2)

  1. مقال جميل جدا .. الجميل في المقال أنك تطرقتي لموضوع تطرق له الكثير ولكن من زاوية مختلفة فلسفة خاصة بك جعلته مميزا
    فعلا
    1. شكرا لك عبدالله 🌹
ما تعليقك على التدوينة؟