9- العودة إلى نقطة الصفر/رقعة الشطرنج

3 min read

احترت في اختيار العنوان لهذه التدوينة، فأطلقت عليها العنوانين المقترحين، وهذا يعبّر عمّا نواجهه يوميا في اتخاذنا لقرارات معينة، خصوصا حين يحتّم علينا اختيار ما استبعاد الآخر، وغالبا ما نكون مترددين بشأن هذه القرارات، ولذلك فنحن في رحلتنا الحياتيّة بحاجة للمرور بالكثير من المحطات لاكتشاف ذواتنا، نبذل كلّ ما أوتينا من جهد، تتراكم علينا التجارب والحكايات، وننغمس فيها وننشغل عن الصورة الكبيرة والنهائية لما كنا ولما نحن عليه الآن، نولي اهتماما كبيرا بإخفاقاتنا الصغيرة والمتكررة، فنشعر بالحرج الشديد حيال أنفسنا، ونحاول كثيرًا الإثبات لأنفسنا أننا لم نخطئ الاختيار، ولكن في لحظة ما، وبعدما كان ما تقوم به يملئ فراغا كبيرا بداخلك، ويداوي جراحا قديمة، ويساعدك في بناء الطريق الذي ترغب، قد تفقد كلّ شيء وتعود إلى نقطة الصفر.

لن أتكلم عن النهوض مجددا، ولكنني سأسأل سؤالا واحدا: هل هناك نقطة صفر من الأساس؟ نظنّ أن كل ارتطام بحسب قوته يعبر عن تراجع بالضرورة، و الارتطام القوي يشير إلى العودة النهائية من تلك القمّة التي ظننا أننا قد ملكناها، لكن الحقيقة أننا ما زلنا في نفس المستوى، بنفس الماضي والمعطيات والمكاسب، والفرق الوحيد هو أن مكاننا اختلف في رقعة الشطرنج، فتختلف معه تلقائيا طبيعة كل شيء في حياتنا، مشاكلنا ومخاوفنا ومشاعرنا ونظرتنا للأمور وطريقة تعاطينا مع الحياة، لا تسير الحياة دائما وفقًا لمخططاتنا، ولذلك حين تعصف بك الأفكار لقاع مسدود، فكّر فيما إذا كانت معطياتك اليوم هي ذاتها معطياتك قبل خمس سنوات، ستجد أن نهوضك اليوم يختلف تمامًا عن نهوضك بالأمس، ذلك لأن المشاكل التي تبحث لها عن حلول تطوّرت تدريجيا مع الوقت، وأنت بدورك تنتظر أن تواجه مشكلة سهلة تشبه ما واجهتها بالأمس، لأن مكانك في هذه الرقعة (رقعة الشطرنج) تغير وتغير كل شيء عليكَ مرة واحدة، ولذلك اضطررت لاختراع الحلول مجددا، وظننت أن ما خلصت إليه في السابق هو حلولك الذهبية التي ستنقذك في كل مرة يتغيّر بها مكانك، وأنت الآن تنتظر ذات المشكلات لأنك تعرف طريقة الخلاص منها جيّدا، ولكن فكّر -افتراضيا- فيما إذا مارست الخلاص تجاه مشاكلك القديمة على مشكلة مشابهة الآن، فأين ستكون قبلها وبعدها؟ بالتأكيد في ذات المكان، وستدور الدائرة غير النهائية في دوامات من المشاكل المتشابهة، الحياة لا تتكون بهذه الطريقة، ولذلك نحن لا نواجه المشكلات ذاتها في كلّ مرة، ولكن من باب التشبيه فالدوائر التي تكرر نفسها كل يوم بذات المشاكل والحلول هي أقرب لنقطة الصفر من تغيير مكانك في رقعة الشطرنج.

البداية الجديدة تعني حمل الكثير من المعتقدات والقرارات والمبادئ القديمة التي تعلمتها من الحياة، ولذلك أفترض شخصيا أن نقطة الصفر هي عندما لا يكون هناك ماضٍ أستند عليه في قراراتي، ولا مستقبل أخطط لأجله، وفيما إذا كان هذان المعطيان يلعبان دورا أساسيا في تحديد قراراتك من مكانك الجديد، فأنت في تحدّ جديد فقط، ولم تعد للوراء خطوة واحدة.

الجدير بالذكر أننا نقيس تقدّمنا بزيادة الأرقام، راتب أعلى، سنوات أكثر، سيرة ذاتية أطول، منتجة الفيلم العاشر، وتدريب المتدرب رقم 100... وهذه أشياء مهمة جدا وأساسية لقياس مدى تقدّمنا، ويصعب كثيرا فصل تقدّمنا عن الأرقام، ولكن فقدان بعضها لا يعني دائما تراجعنا للخلف، ولا تعارض بين الفكرتين، لأن عدم التقدم (الثبات) لا يعني بالضرورة الإخفاق أو الفشل، بل هو مساحة تسمح لنا بالنظر من الخارج إلى الصورة الكبيرة لحياتنا، نأخذ دور المرشد لأنفسنا ونقوم بتقييم أوضاعنا وطريقة سيرنا بل واتجاهه، وإذا لم تحرّك الحياة قطعة الشطرنج الخاصة بك، فقد يحين دورك لتحريكها بنفسك ولا ضير في ذلك، ولكن المهم ألّا تعتقد أنها بمثابة عودتك لنقطة الصفر، وفكّر مليا فيما إذا كانت هذه النقطة موجودة أصلًا.

قد تُعجبك هذه المشاركات

  • حين توضع أمام تحدّ كبير، فأنت أمام خيارين، إما أن تخوضه، أو تتركه، وفي هذه التدوينة سنناقش الاحتمالات لكلّ منهما.حين نخوض التحديات الجديدةقبل اتخاذنا لقرارنا الجريء، سنواجه الكثير …
  • أدركت اليوم في حوار مع صديقتي بأنني لا أعترف بإنجاز المهمة ما لم تكن ضمن خطة مسبقة قد وضعتها لتحقيق هدف ما، فأنا لا أشعر بلذة الإنجاز عند قراءة كتاب ما قمت بقرائته بالمصادفة، أو نص…
  •  الفشل السلبيهناك نوعان من الفشل، النّوع الأول هو بقاؤك في نفس المكان لأعوام طويلة بلا إحداث أي تغيير، وأنا لا أقول بأنك لم تحصل على نتائج، بل أقول بأنك لم تحاول أصلًا خوض أي …
  • اعتدنا الانغماس في الأعمال الروتينية كجزء لا يتجزأ من يومنا، فكل شيء حولنا منظم بدقة ويتطلّب استمرارا في تكرار العمل ذاته كلّ يوم، ذلك لأن معظم المهام المطلوبة منا تأخذ هذا الشكل، …
  • خلال العامين الماضيين كنت أصب معظم وقتي وجهدي في مجال واحد (تصميم الجرافيك)، حتى توقفت للحظة وسألت نفسي: هل هذا حقا ما أريده؟، يبدو السؤال قصيرا وواضحا إلا أنني استغرقت شهورا لفهمه…
  • تعود إلى المنزل بعد يوم متعب وشاق، تبدأ بـ"تضييع وقتك" في أشياء تحبها وتستمتع بها، تشاهد مسلسلك المفضل أو تلعب ألعابا معينة، أو تطبخ الطعام الذي تحبه، أو تلتقي بأصدقائك، وغيرها. تخ…

إرسال تعليق

ما تعليقك على التدوينة؟